نصوم أياماً وليالٍ طِوال، فنتحرّر ونتحوّل ونتضامَن.
الصّوم في وجهه الأول هو انقطاعٌ عن المأكل والمشرب. إنه تحرّر من شهوات البطن والجسد ومن الاضطراب الذي يجعل المادة تتحكّم بنا وتُبَلبِل أفكارنا مشاعرنا: ماذا نأكل؟… نشرب… نلبس؟… فنخاف ونقلق... تقول القديسة تريزيا الإيفيلية:
"لا يقلقنّك شيء
ولا يفزعنّك شيء
فكلّ شيء يزول والله لا يتغيّر.
والصبر ينال كلّ شيء
فمن له الله لا يعوزه شيء
فالله وحده يكفي".
الصّوم هو شغف القلب في الكافي الوحيد الذي هو الله، فـ"ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً"(رو14: 17). والإضطراب والقلق لا يمهّدان للوصول إلى "السكينة"، سكينة الرغبات والشهوات والمشاعر، لبلوغ هدف الحياة، ألا وهو اللقاء مع الله.
من الصّوم عن المأكل إلى النمو في الرّغبات الروحية الحقيقيّة: هذا هو هدف الصّوم، ولهذا السبب يصوم المسيحيّون. فمن الخبز الجسدي إلى الخبز"الجوهري"(متى6: 11)، "والسماوي"(يو6: 23). ومن الخبز الأرضي إلى"كل كلمة تخرج من فم الله"(متى4: 4)، ومن الميل إلى تحقيق الإرادة الشخصية إلى الرغبة في إتمام مشيئة الله، فهي الطعام الحقيقي: "طعامي أن أعمل بمشيئة مَن أرسلني، وإن أُتمَّ عمله"(يو4: 34)، فإلى الرغبة في نيل الروح القدس، فهو العطش الحقيقي، ولذلك قال الرب: "أوسع فمك لأملأه"(مز81: 11). وعندما يتوقف الصّوم عن أن يكون صوم الجسد ونمواً في الرّوح، يتوقف عن أن يكون صوماً حقيقياً.
الصّوم في وجه الآخر هو قوّة تضامن مع الفقراء. مع الجائعين والعِطاش والمتروكين والمُهملين والمنبوذين: مرضى مزمنين يعيشون الوحدة والوحشة، وأسرى مسجونين بدون محاكمة… وفقراء وجياع محرومين من لقمة العيش، وأشخاصاً مستضعفين... مع هؤلاء يجدر بِنا نتضامن في الصّوم، وهذا هو عمل البّر الذي يطوِّب الإنجيل فاعليه بقوله: "طوبى للجياع والعطاش إلى البر فإنهم يشبعون"(متى5: 6).
لماذا التضامن مع الفقراء؟ لأنّ الله هو المُعطي ونبع جميع الخيرات، والإنسان لا يمتلكها لنفسه ولا يمكنه أن يعتبرها "غنيمةً" له، " فما جُعل في أيدينا ليس لنا وحدنا، بل لنا وللمعوزين على السواء. فكما نستعمله لسدِّ حاجاتنا، كذلك يجب علينا أن نمدَّ منه المحتاجين بما يسدُّ حاجاتهم، ولا نخصُّ به أنفسنا وحسب. ما أجدرنا بأن ننصاع لقول الرسول، وقد نطق على لسانه روح مرسله، قال: لا يطلبنّ أحدٌ ما يوافقه، بل ليطلب كلُّ واحدٍ ما يوافق قريبه أيضاً"(يوحنا فم الذهب) .
الصّوم الحقيقي إذاً، هو صومٌ مثّلث يجمع ما بين الموت الذاتي المعبّر عنه بالإنقطاع عن المآكل لفترة معيّنة. والتقدّم بالحياة الروحية المعبّر عنه بالتوبة والصلاة. التضامن مع الفقراء، المعبّر عنه بالعطاء والصدقات والتقدمات.
فليجعل الرب صومنا هذا باباً إلى الذات وباباً إليه وباباً إلى الإنسان. آمين.